الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أيها الحضور الكرام، أكرمكم الله بطاعته... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، ويقول ﷺ: «... ثُمَّ تَكُونُ جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَاُ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» أخرجه أحمد والطيالسي.
لقد أحببت أيها الإخوة أن أبدأ بوعد الله سبحانه بالاستخلاف، وبشرى رسوله ﷺ بعودة الخلافة الراشدة بعد الملك الجبري الذي فيه نعيش... أبدأ بالأمل قبل الألم الذي أصاب الأمة الإسلامية منذ أكثرَ من تسعين سنة، في رجب سنة 1342 للهجرة الموافق آذار 1924 للميلاد، عندما استطاع الكفار المستعمرون بزعامة بريطانيا آنذاك وعملاؤهم من العرب والترك، عندما استطاعوا أن يهدموا الخلافة حيث تُرجِم هذا الأمرُ بقرارٍ صدر في الجلسة الثانية التي عقدها برلمان أنقرة يومَ الاثنين الثالث من آذار سنة 1924، وقد استمرت الجلسةُ من الساعة 3:25 عصراً حتى 6:45 مساء وانتهت بصدور ذلك القرارِ القاتلِ للأمة بإلغاء الخلافة... والمفارقةُ هي أن التصويت على القرار تم برفع الأيدي وليس بالاقتراع السري! وكل ذلك في جو مشحون بالرعب يجعل التصويتَ برفع اليد كاشفاً لصاحبه وهو أمرٌ محفوف المخاطر! ومنذ ذلك اليوم الأسود والأمةُ الإسلامية تعاني الأمرّين في حياتها وفي موقعها بين الأمم:
فبعد أن كان المسلمون أمةً واحدة، دولةً واحدة، خلافةً واحدة، أصبح المسلمون مِزَقاً فوق خمسين دولة أو دويلة... وبعد أن كان دستورنا أحكاماً شَرَعها رب البشر أصبح دستورنا يشرِّعه البشر... وبعد أن كان المسلمون يفتحون الفتوح وينشرون الخير في ربوع العالم ولهم الصدرُ دون العالمين؛ أصبح المسلمون تُنتقص بلادُهم من أطرافها بل من قلبها! فاليهود الذين ضُربت عليهم الذِلةُ والمسكنة احتلوا فلسطين أرضَ الإسراء والمعراج، ليس هذا فحسب، بل إن حكامنا يعترفون بدولة يهود ويقيمون معها علاقاتٍ دبلوماسية!.. وبعد أن كان الخليفة يقود جيشاً لنصرة امرأةٍ مظلومة تقول: وامعتصماه! فينتقِمُ لها ممن ظلمها ويفتح عمورية القريبةَ من أنقرةَ اليوم، بعد ذلك أصبحت نساء المسلمين في أصقاع الأرض تُظلم وتُنتهك الحرمات دون أن ينتصر لهن أيُّ حاكم في بلاد المسلمين... وبعد أن كانت الدول تستغيث بنا لإنقاذها كما فعلت فرنسا بالاستغاثة بالخليفة سليمانَ القانوني لفك أسر ملكها أصبحنا نحن نلجأ إلى الكفار المستعمرين ليحُلّوا لنا قضايانا...
هكذا أيها الإخوة أصبح المسلمون تحيط بهم المصائبُ والفتن، ويلفُّهم القتل من قُدّامهم ومن خلفهم وهم في حيرة من أمرهم! وليس ذلك لقلة عددٍ أو لقلة مدد، بل لأن جُنّتهم قد زال، فالإمام الخليفةُ جُنّةٌ يُتّقى به ويقاتل من ورائه «...َإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ...» أخرجه البخاري في صحيحه، وبزوال الجُنة والوقاية أصبح المسلمون دون رعاية ولا وقاية، بل تسلّط عليهم حكامٌ لا يخشَوْن الله، همُّهم مصالحُ سادتهم المستعمرين، يتجبَّرون على الناس ويظلمون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
إن الخلافة أيها الإخوة هي مبعثُ عز المسلمين وعنوانُ قوتهم، وهذا يعلمه دهاقنة الاستعمار، لذلك قال كُرزون في مجلس العموم البريطاني عند إلغاء الخلافة: "القضيةُ أن تركيا قد قضي عليها ولن تقوم لها قائمة لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها: الخلافةِ والإسلام".... ولأنهم يدركون ذلك فلم يكتفوا بهدم الخلافة، بل بذلوا ويبذلون الوسع للحيلولة دون عودتها من جديد، وشنوا حرباً ضروساً على العاملين لها، ولذلك فقد جُنَّ جنونهم عندما سمعوا بانطلاقة حزب التحرير قبل ستين سنة، وأن الحزب اتخذ عودةَ الخلافة قضيةَ الأمةِ المصيرية، فحاربوه دون هوادةٍ هم وعملاؤهم بكل أساليب الشر التي في جُعبتهم من افتراءٍ واعتقال وتعذيب يُفضي إلى الشهادة وأحكامٍ بالسجن طويلة... ولكنهم فشلوا في كل ذلك وبقي الحزبُ واقفاً لا ينحني إلا لله... وأخيراً حاربوه بأن استغل الكفار المستعمرون جرائمَ بعض الحركات الإسلامية التي أعلنت الخلافة على غير وجهها الشرعي، وقامت بتصرفاتٍ غير شرعية من ذبح وحرق وتخريب وتدمير... استغل الكفار المستعمرون جرائم هذه الحركات، وصاروا يسلِّطون الأضواءَ عليها، يعرضونها بقوةٍ على الشاشات، وذلك ليُدخلوا في رُوع المسلمين أن الخلافة التي يريدون ها هي جرائِمُها تَزكُم الأنوف، ومن ثَمَّ يكره الناسُ الخلافةَ الحقيقية... ولكنهم كما فشلوا في وسائلهم السابقة فشلوا ويفشلون هذه المرة كذلك بإذن الله، فالناس يدركون الخلافةَ الشرعية، ويميزون بينها وبين الخلافةِ المزعومة، فالخلافةُ الحقة ليست مجهولة... إنها نظامٌ مميز بيّنه رسول الله ﷺ وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، فليست الخلافةُ امبراطوريةً أو ملكية، ولا جمهوريةً رئاسية أو برلمانية، ولا دكتاتوريةً أو ديموقراطيةً تشرّع من دون الله، ولا أيَّ نوعٍ من الأنظمة الوضعية، ولكنها خلافةُ عدلٍ، وحكامُّها خلفاءُ أئمة، يُتَّقى بهم ويقاتل من ورائهم... إنها خلافةٌ تحمي الدماءَ، وتصونُ الأعراضَ وتحفظُ الأموالَ، وتفي بالذمة... تأخذ البيعةَ بالرضا والاختيار لا بالقهر والإجبار، يهاجرُ لها الناسُ آمنين لا أن يفروا منها مذعورين...
أيها الإخوة الحضور، يا أصحاب البصر والبصيرة، يا أولي الألباب، يا من تُحسّون بالألم نتيجةَ فقدان الخلافة، جُنّةِ المسلمين ووقايتِهم... ادرؤوا عن أنفسكم الإثمَ العظيم، فاعملوا لاستئناف الحياة الإسلامية في الأرض بإعادة دولة الخلافة الراشدة، فالقعودُ عن ذلك فيه إثم عظيم إلا لمن يتلبَّسُ بالعمل، يقول ﷺ: «... وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» أخرجه مسلم، أي بيعةُ خليفةٍ قائمٍ بالحق، فهلمَّ رجالَكم ونساءكم وخاصتَكم وعامتكم للعمل بجِد واجتهاد وصدق وإخلاص، لإقامة الخلافة وذلك الفوز العظيم...
وفي الختام فإني أذكركم وأطمئنكم: أذكِّركم بأن هذا البلدَ أوسكودار الذي يُعقد فيه مؤتمرُكم قد كان أوَّلَ الفتحِ من القُسطنطينية، وكان منطلقَ الفتح للجيوش التي كان يرسلها الخلفاءُ من آسيا لفتح القُسطنطينية، فتعسكِرُ فيه وتنطلقُ من مينائه إلى الميناء المقابلِ في الجانب الأوروبي فتغزو القُسطنطينية وتُحاصرها، وكان ذلك مراتٍ ومرات إلى أن أكرم اللهُ السلطانَ محمداً الفاتح بهذا الفضل العظيم كما قال ﷺ: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ» أخرجه أحمد.. وأُطمئنكم بأن إخوانكم في حزب التحرير ثابتون على الحق، عاملون بجد واجتهاد لتحقيق وعد الله سبحانه وبشرى رسوله ﷺ بعودة الخلافةِ الراشدة، لا يخشَوْن في الله لومةَ لائم، وهم يَغذّون السيرَ على الطريق الذي رسمه رسولُ الله ﷺ، وقد أوشك إخوانُكم أن يبلغوا من هذا الطريقِ منتهاه بإذن الله سبحانه، فيستظلوا معكم وبكم بظلِ رايةِ العُقاب، رايةِ رسول الله ﷺ، وهكذا تُشرقُ الخلافةُ في الأرض، وينتشرُ الأمن والأمان والعدلُ في ديار الإسلام ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
وخاتمة الختام، فإني أباركُ لكم مؤتمرَكم هذا، فعلى بركة الله، وباسم الله... وإني لأسألُ الله سبحانه أن يُنتج هذا المؤتمرُ ثمراً طيباً مباركاً، يعزُّ به الإسلام والمسلمون، ويذلُّ به الكفار المستعمرون ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير
|