نشر موقع فبراير.كوم بتاريخ 2015/11/08، مقتطفات من بلاغ أصدره مرصد الشمال لحقوق الإنسان يطالب بطرد شركة أمانديس من مدن الشمال وفتح تحقيق فيما أسماه بـ«عمليات النهب والسرقة» التي تقوم بها منذ أزيد من 15 سنة.
وقال المرصد أنه يتابع باهتمام بالغ الاحتجاجات السلمية والحضارية التي ينظمها سكان مجموعة من المدن بشمال المغرب ضد النهب المتواصل لجيوبهم وسرقة عرق جبينهم الذي تقوم به شركة أمانديس المكلفة بتدبير قطاعي الماء والكهرباء منذ سنة 2001 وسط مباركة للخروقات التي ترتكبها من طرف الجهات الوصية مركزيا ومحليا بعضها مسجل بتقارير جهات رسمية من بينها المجلس الأعلى للحسابات».
ولم يخف المرصد استغرابه الكبير «للدفاع المستمر والمتواصل من طرف المسؤولين الحكوميين المركزيين طيلة أزيد من 15 سنة ووقوفهم إلى جانب أمانديس، وقمع الناس وإسكات صوتهم ومتابعتهم قضائيا وتسخير القوات العمومية لإرهابهم رغم سلمية الاحتجاجات وحضاريتها».
وفي السياق نفسه، أعلن المرصد وقوفه إلى جانب سكان مدن الشمال المتضررة من شركة أمانديس والاستجابة الفورية لمطلبهم بطرد شركة أمانديس وبفسخ العقد وإرجاع التدبير الخاص لقطاعي الماء والكهرباء إلى مؤسسة عمومية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها الاحتجاجات في مدن الشمال على الفواتير المرتفعة لشركة أمانديس، فقد عرفت المنطقة احتجاجات مشابهة في 2006 و2011، وفي كل مرة يحتج الناس تدَّعي الشركة والسلطة المحلية أن هناك أخطاء في الفوترة وأنها ستعمل على تصحيحها، ثم تلجأ الدولة إلى العلاجات الترقيعية لتخدير الناس وتمرير الموضوع دون المساس بجوهر المشكل ومعالجته من جذوره.
يعزو البعض رفع أسعار الماء والكهرباء الذي قامت به شركة أمانديس هذه المرة إلى الرفع الذي قام به المكتب الوطني للماء والكهرباء لأسعاره بصفته المورد الحصري لأمانديس، وكانت الحكومة قد لجأت إلى هذا الرفع لإنقاذ المكتب بعد أن أوشك على الإفلاس. إلا أن المطلعين يعلمون أن رفع المكتب لأسعاره ليس السبب الوحيد، وأن أمانديس استغلت الفرصة لزيادة أرباحها وذلك بالتلاعب بنظام الأشطر، ومن ثم الاستفادة منه عبر تأخير القراءة الشهرية للعداد مما يزيد حجم الاستهلاك، ووضع العراقيل أمام تثبيت العدادات الفردية و...
إن المتابع لما يجري يدرك أن أمانديس تُعامل معاملة خاصة "مُدلَّلة"، فرغم كل التقارير الرسمية التي تحدثت عن الخروقات التي تشوب طريقة تسييرها، وعدم قيامها بالاستثمارات المطلوبة منها، ورغم كل ما كشفه عمدة طنجة السابق سمير عبد المولى عنها، فإن الدولة لم تتخذ أي إجراءٍ ضدها، واضطر العمدة إلى الاستقالة من العمودية في سابقةٍ في تاريخ العمداء. ورغم مطالبة الجميع بوجوب فسخ عقد أمانديس فإن أحداً لم يجرؤ على ذلك تارة خوفاً من التأثير سلباً على العلاقات مع فرنسا وتارة خوفاً من التبعات المالية لمثل هذا القرار (تعويض جزائي بقيمة حوالي 4 مليار درهم لصالح أمانديس)، إذ من الواضح أن عقد التفويض صيغ بطريقةٍ تحمي مصالح أمانديس أكثر مما تحمي مصالح مجلس المدينة.
فما الحل إذن؟ وما السبيل إلى حماية مصالح الناس من تغوُّل أمانديس؟
على الرغم من تأييدنا للاحتجاجات الشعبية التي يقوم بها أهلنا في الشمال، إلا أنه من واجبنا أن نضع الإصبع على أصل المشكل كي نعمل جميعاً للقضاء على المشكل من جذوره. فالاحتجاج أمر طيبٌ ومحمودٌ بلا شك، وهو أمارةٌ على أن في الجسم بقايا روح، إذ إن الجثة الهامدة وحدها هي التي لا تتأثر بالوخز، إلا أن مجرد الاحتجاج دون التفكير في أصل المشكل وسبل علاجه جذرياً ثم العمل على تطبيق الحلول في أرض الواقع، لا يجدي نفعاً وستُستنفد طاقات الغاضبين في الحركات الاحتجاجية، وتُبَـحُّ أصواتهم من الصياح في المظاهرات، وقد تُطفئ الدولة جمرة غضبهم بحلولٍ ترقيعيةٍ فتخبو النار تحت الرماد، وتُسكَّن الآلام بشكل مؤقت، إلا أن أصل المشكل سيبقى قائماً وإن خفت آثاره إلى حين، فتبقى جذوة النار متقدةً تتحيّن الفرص لكي تستعر من جديد.
فما هو أصل المشكل إذن؟
إن أصل المشكل دون شكٍّ هو تفويتُ هذه المرافق الضرورية وهي الماء والكهرباء من الملكية العامة، إلى القطاع الخاص. فمن المعلوم أن القطاع الخاص قطاعٌ لا يهمُّه إلا الربح، وتحويل هذين القطاعين الحيويين إلى دائرة صلاحيات القطاع الخاص يحولهما إلى مادةٍ ربحيةٍ وسلعةٍ خاضعةٍ لقوانين التجارة ولمنطق المضاربة والربح والخسارة مما يعرض الناس لضيقٍ شديد. فطبيعة هذين القطاعين، وكونهما مما لا يستغني عنهما الإنسان، تمنع اختصاص الخواص بهما، وتحتم أن يكونا من الملكية العامة، وأن يُمكَّن الجميع منهما، أغنياءً كانوا أم فقراء، دون مقابل، أو على أقصى تقديرٍ بثمن الكلفة. وقد فَطِن الإسلام لهذه المسألة، وهو الدين الموحى من فوق سبع أرقعة، فجعل الماء، والكلأ (أي المراعي)، والنار (أي كل ما يستعمل للإنارة أو للوقود) ملكاً لعامة المسلمين، ومنع أن يختص بأحد هذه الأصناف الثلاثة أحدٌ فيمنع عامة الناس من الاستفادة منهن، قال رسول الله ﷺ: «ثلاثٌ لا يُمْنـعْن: الماءُ، والكلأ، والنار » [صحيح/ ابن ماجه]، وقال ﷺ: «المسلمون شُركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» [صحيح/ ابن ماجه]، وقال ﷺ: «لا يُمنَعُ فَضْلُ الماء». [صحيح البخاري]، وقال أيضاً: «ثلاثة لا يُكلِّمهم الله ولا يَنْظُرُ إليهم: رجلٌ حَلَفَ بعد العصر على مال امرئٍ مسلمٍ فاقْتَطَعَهُ، ورجلٌ حَلَفَ لقد أُعْطِيَ بسلعته أكثر مما أُعْطِيَ، ورجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ الماء، يقول الله: اليوم أمنعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ ما لم تَعْمَلْهُ يَداك» [صحيح ابن حبان]، وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: «نهى رسول الله ﷺ عن بيع فضل الماء» [صحيح مسلم]. إذن فهذه النصوص تُحرِّم تحريماً قطعياً أن يستأثر أحدٌ بالماء ويمنع منه عموم الناس.
وبعد هذا البيان الشافي، لا أظن أن اثنين سيختلفان حول حُرمة أن تتحول هذه المادة الحيوية إلى سلعةٍ يُساوَم عليها الناس، وتباع لهم دون مراعاة حالتهم المادية من غنىً أو فقر، ولا أظن أن اثنين سيختلفان حول حرمة أن يُمنع الماء عن الناس إلا مقابل أداء ثمن، فكيف إذا كان الثمن مما لا يطيقون أداءه!؟ لا شك أن ذلك حرامٌ حرمةً قطعية. وما ينطبق على الماء، ينطبق على الكهرباء، فهما مشمولان بحديثٍ واحد، فالكهرباء تُستعمل للإنارة وللوقود لذلك فهي مما يدخل تحت بند "النار" الواردة في الحديث.
هذا عن الحكم الشرعي في تحول الماء والكهرباء إلى سلعٍ لا يُمكَّن من الانتفاع بها إلا من أدّى ثمنها، وهو أمر ٌلا يمكن تلافيه حين يتم تفويت هذين القطاعين إلى الخواص، فكيف إذا كان هؤلاء الخواص من الكفار؟ وكيف إذا كان هؤلاء الكفار مستعمرين سابقين، أي من أصحاب السوابق في نهب خيرات البلاد؟ وكيف إذا كان هؤلاء المستعمرون السابقون ممن قام الدليل القطعي على استمرار وجود نواياهم الخبيثة في الاستئثار بخيرات البلاد بإعادة استعمارها من جديد بقناع مغاير، وممن قام الدليل القطعي على سعيهم الدؤوب لإضعاف البلاد لمنعها من مقاومة ما يُكاد لها؟ وكيف إذا كان هذا التفويت جزءاً من سياسةٍ عامةٍ وُضعت بخبثٍ، تقضي بتفويت المفاصل الحيوية في الدولة إلى القطاع الخاص فيما يسمى بالخصخصة حتى تفقد الدولة سيطرتها على الناحية الاقتصادية؟ وكيف إذا كانت سياسة الخصخصة هذه، سياسة مملاةً ومفروضةً بشكل مباشر من الغرب ومؤسساته المالية كشرطٍ لإعطائنا شهادة حسن السيرة والاستمرار في منحنا قروضهم الملغومة...؟ لا شك أن الحرمة تتضاعف وتتضاعف...
والسؤال الذي يَرِدُ هنا: إذا كان الحكم الشرعي واضحاً إلى هذا الحد، ولا يلزم الباحث عنه إلا قليلُ جهدٍ، فَلِمَ خالفته الدولة؟ أتُراها تجهله، أم أنها تتجاهله وتُعرض عنه رغم معرفتها به؟ لو كان مرد الأمر للجهل، لذكَّرناها بالحكم ولعرضنا عليها النصوص الشرعية وآراء الفقهاء فيها، فيُحلَّ المشكل، ولكن نظرة بسيطةً تُرينا أن مخالفة الأحكام الشرعية ليست مقتصرةً على هذا الحكم وحده، بل هي شاملةٌ لكل الأحكام الشرعية، ولا يسلم من هذه المخالفة إلا بعض أحكام الزواج والميراث، وما عداها فالقوانين الوضعية هي الأساس وهي التي يتحاكم إليها الناس. إذن فمخالفة الحكم الشرعي في التصرف في الماء ليست نشازاً ومخالفةً للقاعدة، بل هي جزءٌ من سياقٍ عام، اختارت فيه الدولة أن تضعَ شرع الله جانباً ثم تنهلَ من قوانين البشر، فتستنبطَ من أهوائهم وما تمليه عليهم مصالحهم قوانين تُسيّر بها شؤون الحياة، فتُعبِّد البشر للبشر وتزيدهم رَهَقاً.
لقد سبق الإخبار من رب العالمين، أن عاقبة الانحراف عن أمره وخيمة، وأن التنكُّب عن شرعه لا يُولِّد إلا البوار والخسران في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا، فتطبيق شرائع البشر لا ينتج إلا الظلم والقهر والفساد والفقر، وها نحن نرى ذلك في واقعنا واضحاً بادياً لكل ذي عينين، وها نحن نراه في مسألة مخالفة أمر الله في جعل الماء والكهرباء ملكاً عاماً، حيث لم تعد الاستفادة من هاتين المادتين مُتَأتِّـيةً إلا بضنكٍ شديد، وشبح قطع العداد يتهدد كل من يتأخر في السداد، وصدق رب العالمين إذ يقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]، وأما عاقبة الإعراض عن شرع الله في الآخرة فتُبَـيِّنُه باقي الآيات: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 125-127].
إن الخروج إلى الشوارع للاحتجاج على فواتير الماء والكهرباء، وإن كان عملاً محموداً كما أسلفنا، ولكنه يبدو على ضوء ما ذكرنا غير كافٍ لتغيير هذه الأوضاع التي نعيشها، وإن كان رفع أسعار الماء والكهرباء مفسدةً يجب دفعها، فإن الإعراض عن شرع الله مفسدةٌ أكبر، بل أسُّ المفاسد، وهو الأولى بالدفع، وإن كان رفع أسعار الماء والكهرباء مشكلاً يستوجب الحل، فإنه في حقيقته لا يعدو أن يكون أحد أعراض المشكل الأكبر، مشكل تعطيل أحكام الله والاحتكام بدل ذلك إلى شرعة فرنسا وبريطانيا أو غيرهما من بلاد الكفر. وهذا هو المشكل الذي يجب أن توجه إليه الجهود وتركّز فيه الطاقات، وهو لن يُحَلَّ إلا بتضافر الجهود في عملٍ سياسي جماعي يشترك فيه كل أهل الغيرة على هذا الدين، فيُبيِّنون للناس فساد النظرة الرأسمالية، وفشل معالجاتها، ويعرضون الإسلام وأفكارَه في المجتمع عرضاً سياسياً، ويبينون للناس بالحجة والبرهان طريقة الإسلام الناجعة في رعاية مصالحهم، فيوجدوا بذلك بإذن الله تياراً شعبياً ضاغطاً لا يرضى بغير الإسلام نظاماً، ويقودوهم نحو التغيير الذي نتشوَّق إليه جميعاً.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير محمد عبد الله
|