- كتبه: الأستاذ مناجي محمد
خلال هذا العقد عَرف الخطاب الرسمي للحُكْم بالمغرب تركيزا على توجيه دفة سياسته الخارجية والاستراتيجيات والخطط والمشاريع والبرامج المرتبطة بها نحو الساحة الأفريقية، وبهذه الوتيرة المتسارعة تمت تولية قبلة العلاقات الخارجية صوب أفريقيا.
كان المغرب قد انسحب من منظمة الوحدة الأفريقية عام 1984 بسبب عضوية جبهة البوليساريو فيها، وبات معها الشأن الأفريقي بالنسبة للحكم ثانويا هامشيا، واقتصرت العلاقات الخارجية بأفريقيا على علاقات ثنائية تؤطرها قضية الصحراء وموقف دول أفريقيا من جبهة البوليساريو. ثم كان التحول الكبير المثير خلال هذا العقد في الخريطة السياسية الخارجية للحكم الذي أصبحت معه أفريقيا مركزها، واختصرت معها السياسة الخارجية للحكم في السياسة الأفريقية للمغرب بحسب الخطاب الرسمي الجديد. وكان خطاب دكار الاستثنائي لحظة فارقة في السياسة الخارجية للحكم بالمغرب، فقد وجه القصر بالمغرب خطاب ذكرى المسيرة الخضراء في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 في سابقة تاريخية من عاصمة دولة السنغال دكار للدلالة على أهمية وأولوية التوجه الجديد للسياسة الخارجية للحكم، وكان خطاب دكار مؤسِّسا لهذه السياسة الجديدة والمستجدة وجاء فيه: "إن السياسة الأفريقية للمغرب لن تقتصر فقط على أفريقيا الغربية والوسطى وإنما ستحرص على أن يكون لها بُعد قاري وأن تشمل كل مناطق أفريقيا"، بعدها تمت إعادة هيكلة وزارة الخارجية لتستجيب للوظيفة الجديدة، وصارت بعدها تسمى بوزارة الخارجية والتعاون الأفريقي، ثم توالت الخطوات لترجمة التوجه الجديد للسياسة الخارجية للحكم فتم الانضمام إلى منظمة الاتحاد الأفريقي بداية 2017 والحصول على العضوية في مجلس الأمن والسلم الأفريقي في بداية 2018، كما تم تقديم طلب للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
وهكذا أصبح توجه الحكم بالمغرب نحو الجنوب لافتا ومثيرا في سياسته الخارجية خلال السنوات القليلة الماضية، وارتفعت وتيرة زيارات القصر لدول أفريقيا وحجم الاتفاقيات والمشاريع المبرمة والمدرجة، وضمن هذا السياق جاء ما أطلق عليه المبادرة المغربية لدول الساحل للوصول إلى الأطلسي، أعلن عن مضامينها القصر في خطاب رسمي بتاريخ 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وتم التأكيد فيه على استعداد المغرب لتقديم دعمه وإتاحة البنية التحتية الخاصة بالطرق والموانئ والسكك الحديدية لدول الساحل، مع ضرورة تطوير البنية التحتية في دول الساحل عبر شبكات النقل والاتصالات الإقليمية لضمان نجاح المبادرة بهدف تعزيز وتحسين التواصل والتجارة بين دول الساحل والعالم الخارجي. وفي مؤتمر مراكش الذي عقد في 23 كانون الأول/ديسمبر 2023 تم التوقيع على اتفاق بين المغرب ودول الساحل متمثلة في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد لتسهيل ولوجها إلى المحيط الأطلسي.
لم يكن هذا الانقلاب في الموقف الرسمي وسياسته الخارجية من قطيعة لأفريقيا وجمود دبلوماسي إلى التحام تام وديناميكية دبلوماسية متسارعة، نابعاً من رؤية خاصة للحكم أو وليد تحول في الموقف الأفريقي من أسباب القطيعة، فجبهة البوليساريو ما زالت عضوا في المؤسسات والمنظمات الأفريقية، وبناء عليه لا يفهم هذا التحول المثير والانقلاب إلا في ضوء السياسة الدولية للدول ذات النفوذ في بلاد المغرب والتأثير على الحكم فيه.
ويجد هذا الانقلاب تفسيره في طبيعة السياسة الخارجية لدول الهوامش والأطراف، ونعني بها الدول الخاضعة للنفوذ الخارجي الدائرة في فلك الدول الكبرى، فالسياسة الخارجية لدول الهوامش والأطراف هي جزء من السياسة الدولية للمركز وفرع عن السياسة الخارجية للدول الكبرى الفاعلة والمؤثرة في الساحة الدولية ومنها القارة الأفريقية. والحالة المغربية نموذج صارخ لدولة الهامش الوظيفية، يبقى تحديد الفلك الذي يدور فيه ومعه الحكم لفك شفرة السياسة المغربية الأفريقية وخفاياها وخباياها.
تعرف بلاد المغرب الأقصى تغلغلا وتجذرا للنفوذ البريطاني وتأثيرا شديدا على الحكم فيه، فعلاقة مملكة الإنجليز بالحكم بالمغرب ضاربة في القدم، وحالة المغرب الأقصى حالة فريدة في قدم تأثير ونفوذ الإنجليز على بلد إسلامي، ولا ينفك ساسة الإنجليز العزف على أوتار 800 سنة من علاقة مملكة الإنجليز بالحكم بالمغرب، وأن أول اتفاق أمني تجاري (استعماري) لسنة 1721 بفاس عمره ثلاثة قرون، وكان حجر الأساس في تغلغل وتجذر التأثير والنفوذ الإنجليزي في الحكم بالمغرب، وهذا التأثير والنفوذ مستمر إلى يومنا هذا مع الحكم القائم الآن. وبناء عليه فالسياسة الخارجية للحكم بالمغرب تدور في فلك السياسة الخارجية البريطانية، والسياسة المغربية الأفريقية هي فرع عن الاستراتيجية الكبرى التي رسمتها بريطانيا للقارة الأفريقية ودور الحُكم بالمغرب كأداتها الأساسية والرئيسية بل يكاد يكون الأداة.
فلقد عرفت القارة الأفريقية خلال هذه الألفية الثالثة صراعا وتطاحنا استعماريا شرسا على إثر التحولات الكبرى التي عرفها الموقف الدولي وتوحش وتغول المنظومة الرأسمالية الاستعمارية، عطفا على غنى القارة على مستوى المواد الأولية والثروات الطبيعية مع معاناتها الرهيبة من الفراغ السياسي والأيديولوجي، وفي هذا السياق أضحت أفريقيا هي الشغل الاستعماري الأول في الأجندات الخارجية للقوى الدولية الاستعمارية في نظرتها لأفريقيا كساحة للنهب وسوق للاستهلاك. وجراء هذا التطاحن الاستعماري الشرس والهجمة الأمريكية العنيفة بات الاستعمار الأوروبي القديم وتحديدا الفرنسي والبريطاني على المحك، فكان لانتفاضة الربيع العربي أثر في زعزعة هيكل الاستعمار البريطاني في كل من تونس وليبيا ونفاذ أمريكا لليبيا والقضاء على حكم القذافي أداة وركيزة الاستعمار البريطاني في القارة الأفريقية، ثم كان بعدها "البريكست" أو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شكل هذان العاملان الباعث الأساسي لإعادة بريطانيا ترتيب أوراقها الاستعمارية وإعادة صياغة استراتيجيتها لأفريقيا، واتخذت من المغرب ونظام حكمه ركيزة استراتيجيتها الاستعمارية الجديدة لأفريقيا وأداتها البديلة، وكان اعتماد المغرب لاعتبارين أساسيين: الموقع الجيوستراتيجي كهمزة وصل بين أوروبا وأفريقيا عبر واجهته المتوسطية، والأمريكيتين بأفريقيا عبر واجهته الأطلسية، ثم الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه نظام القذافي في خدمة الاستعمار البريطاني بأفريقيا، ورُسمت خريطة الطريق وبدأ الشروع في تنفيذ مقتضياتها، وكان توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين بريطانيا والمغرب سنة 2018، ثم توقيع اتفاقية الشراكة بين البلدين سنة 2019، بمثابة إعلان رسمي عن انخراط المغرب في الاستراتيجية البريطانية المتعلقة بالقارة الأفريقية. في مقال للنائب البريطاني جيمس دودريدغ نشرته "بوليتك هوم"، قال: "إن المغرب شريك تجاري فريد للمملكة المتحدة والذي بفضل موقعه الاستراتيجي يثبت نفسه كبوابة نحو أفريقيا ويتيح ولوجا سلسا للسوق الأفريقية"، وأضاف "عندما يتعلق الأمر بفرص الأعمال بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فإن لندن محقة في إعطاء الأولوية للعلاقة الفريدة القائمة بين بريطانيا والمغرب منذ 800 سنة"، وسجل كذلك "أن موقع المغرب الاستراتيجي يعد الأساس للشراكات الثلاثية المحتملة (بريطانيا، المغرب، دول أفريقيا) وبوابة الولوج إلى الأسواق الأفريقية عبر ميناء طنجة المتوسط أكبر مركز شحن في أفريقيا والبحر المتوسط والذي يرتبط بـ40 ميناء في أفريقيا". وذلك ما عبَّر عنه الوزير البريطاني للتجارة كونور بيرنز حول "التثليث: المغرب وأفريقيا والمملكة المتحدة".