بسم الله الرحمن الرحيم
من هو الحاكم الذي يستحق المدح؟
تصمُّ وسائل إعلامنا العربية والإسلامية آذاننا بكيل المديح للحكام ووصفهم بكل أوصاف التفاني والإخلاص وبعد النظر، في حين تغص الفضائيات وأحاديث الشارع بكيل الانتقادات اللاذعة لهم والاتهامات بالعمالة والفساد والتفريط، ويقف المواطن العادي بين هذين الفريقين موقف الحائر، فهل يثق في حكامه وينضم إلى صف مؤيديهم؟ أم ينفض يديه منهم، وينضم إلى صفوف معارضيهم؟ ومما يزيد في الحيرة، أن كلا الطرفين، يؤيد مواقفه بأدلة وأحداث تُعزِّز نظرته، ويُظهِر منها صحة موقفه. فما هو الموقف الصحيح إذن؟
إن استعراض الأحداث الفردية وضرب الأمثلة لن يقدم شيئاً، فمقابل كل حدثٍ يقدمه هذا الطرف، سيأتي الطرف الآخر بموقف يعزز طرحه، ولن نصل إلى نتيجة. لذلك فالصواب هو وضع مقاييس واضحة لنعرف متى يكون الحاكم مستحقاً للمدح أو الذم، وعلى ضوء هذه المقاييس نستعرض مواقف الحكام ثم نحكم. فما هي هذه المقاييس؟
1- تحكيم شرع الله: يقول تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر: 8]، ويقول أيضاً: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف: 103-104]. فأول مقياس هو تحكيم شرع الله، العقيدة التي تدين بها الأمة، فمن حاد عنه كان مستحقاً للذم ولو فرش الأرض للناس حريراً وملأ جيوبهم ذهباً.
2- إحسان التطبيق: إن التطبيق إذا فُصِل عن الإحسان فيه كان ناقصاً، بل وقد يؤدي إلى تنفير الناس. والمقصود بالإحسان في التطبيق هو الإحسان في تطبيق المعالجات الشرعية ببذل الجهد في فهم الوقائع، وحسن الرعاية، وتحبيب الإسلام إلى الناس، والعمل على توطيده في مؤسسات الدولة وفي عقول الناس وسلوكهم، بحيث يصبح التقيد بالشرع سليقةً عند الناس حتى إن انحرف الحاكم أو ضَعُف مستواه، ويكون كذلك بتشجيع البحث العلمي والاعتناء بتطوير الأشكال المدنية والاستغناء عن الخارج، وبناء النهضة الصناعية والتكنولوجية، ...
3- تكوين الرجال: تظهر قوة الحاكم في قدرته على تكوين رجالٍ قادرين على حمل أعباء الدولة من بعده. حتى إذا رحل الحاكم، وُجد في حاشيته عشرات الرجال المخلصين من ذوي الكفاءات العالية لو وُكل الأمر إلى أيّ واحدٍ منهم سارت الأمور على ما يرام. ويظهر ضعف الحاكم إذا أحاط نفسه ببطانةٍ مفسدةٍ، فإذا رحل ووُكلت الأمور إلى أيّ واحدٍ منهم سار بها إلى الهاوية. يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: « الملك كالسوق، يُجْلَب إليه ما يُنفَق فيه ». فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة، جُلب إليه ذلك، وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة، جُلب إليه ذلك.
هذه هي مقاييس صلاح الحاكم من فساده، ولنستعرض حكامنا الآن واحداً واحداً، وللنظر أيهم يستحق المدح. أما عن تطبيق شرع الله، فكلهم معرضٌ عنه ضاربٌ به عرض الحائط. ويكفي هذا للحكم أن حكامنا لا يستحقون إلا الذم، لكنهم جمعوا بالإضافة إلى هذا سوء الرعاية وتنفير الناس من الإسلام وإشاعة الفساد ورهن الاقتصاد بيد المستعمر الطامع. ثم أضافوا إليه أيضاً أن أحاطوا أنفسهم ببطانات السوء ومافيات النهب، حتى إن الاسمين ليكادان يقترنان، فَلِبِطانة الحاكم الحظوة في خزينة الدولة والمشاريع المربحة، ولا يصل إلى الشعب إلا فتات الموائد، أو ما لم يروه بعد.
إن رحيل حاكم ومجيء آخر في بلادنا يصحبه دوماً التعهد بمحاربة الفساد والرشوة وإقصاء الحرس القديم المسيطر على مقاليد الأمور الكابح للتغيير... فمن صنع هذا الفساد؟ ومن شجعه ونمّاه؟ ومن مكّن هذا الحرس القديم ووضع مقاليد الأمور بين يديه؟ أليس الحاكم السابق؟ فكيف إذن نستمر في كيل المديح له؟
ولندرس الآن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، وسنرى كيف تنطبق هذه المقاييس عليهم انطباقاً تاماً، فهم قد طبقوا شرع الله وما حادوا عنه قَيْدَ أنملةٍ، وهم أحسنوا تطبيقه وتفانوا في ذلك، حتى أصبحت الدولة الإسلامية في عصورهم الدولة الأولى التي لا يقوى أحدٌ على الوقوف في وجهها، وهم قد ثبّتوا الإسلام في قلوب الناس وعقولهم، ولولا ذلك ما كنا نحن ندين بهذا الدين بعد 14 قرناً من نزوله. كما عرفت مدرستهم تخرج آلاف الرجال ممن لم تعرف لهم البشرية مثيلاً في القوة والفهم والثبات على الحق والتفاني في خدمته، وكُتُبُ التاريخ تغصُّ بأمجاد هؤلاء الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة المبشرين بالجنة، وأمثال عبادة بن الصامت والقعقاع بن عمرو وسعد بن معاذ وخالد بن الوليد ... وغيرهم كثير رضوان الله عليهم أجمعين.
هذه هي مقاييس الحكم على صلاح الحكام أو فسادهم، وهي مقاييس عالمية تصلح للتطبيق على كل الشعوب والأمم (طبعاً يقاس صلاح الحاكم بمدى التزامه بتطبيق المبدأ الذي تدين به الأمة التي يحكمها) وهذه المقاييس تقرر بما لا يدع مجالاً للشك أن ليس منهم من يستحق المدح. لذلك فالإصرار على ذلك لا يمكن أن يُصنّف إلا سذاجةً أو جهلاً أو نفاقاً أو نفعيةً انتهازية.
2005/06/24