بسم الله الرحمن الرحيم
الاستقرار السياسي مفتاحُ الانتعاش الاقتصادي
كثيراً ما نسمع هذه العبارة تتردّد على ألسنة السياسيين وخبراء الاقتصاد، وكم سال من الحبر على صفحات الجرائد لتبيان صحتها وصدقها. وهي لا شك مقولةٌ صحيحة يشهد لها الواقع الحالي والتاريخ معاً. أما التاريخ، فمن المعروف أن الانتعاش الاقتصادي للدول قد ارتبط دوماً باستقرار الأوضاع السياسية سواء عند الفينيقيين أو الرومان أو المسلمين أو غيرهم من الحضارات. أما الواقع، فمن المعروف أن مما يشجع الناس على إخراج أموالهم من جحورها هو اطمئنانهم على سلامة الأوضاع السياسية التي تضمن لهم أن يستثمروا أموالهم دون خوفٍ من أن يصل إليها لهيب الفوضى والاضطرابات الغوغائية. ومما يشجع الناس كذلك على استثمار أموالهم اطمئنانهم إلى وجود سلطةٍ قضائيةٍ منصفةٍ نزيهةٍ قادرةٍ على إرجاع الحقوق لأصحابها في حال وُجد اعتداء من أي طرف.
وبما أن الانتعاش الاقتصادي مطلبٌ جماعي لا يختلف عليه اثنان، فإن أي عملٍ يُوجده أو يشجعه يصبح كذلك مطلباً جماعياً لا خلاف في وجوب القيام به. وكون هذا الانتعاش مرتبطاً بالاستقرار السياسي ارتباطاً عضوياً، فإن كل ما من شأنه زعزعة الاستقرار السياسي هو مدانٌ لأنه سيؤدي حتماً إلى ضرب الانتعاش الاقتصادي. إذن لحد الآن لا خلاف على صحة هذه المقولة وصدقها، إلا أن الشكل والزخم الذي يتم به تداولها هذه الأيام يجعل منها "مقولة حق يراد به باطل".
ذلك أن الضبابية المحيطة بتعريف الاستقرار السياسي وبكيفية إيجاده والمحافظة عليه خوّل البعض من استخدام هذه المقولة مطيةً لتبرير سياساته المنحرفة وإقصاء معارضيه. لذلك أصبحنا نرى أن كل معارضةٍ جديةٍ للحاكم أو محاسبةٍ له على تجاوزاته تعتبر في عُرفهم زعزعةً للاستقرار السياسي، وكلَّ اتصالٍ بالأمة لحَـثِّها على رفض الظلم الواقع عليها وإظهار امتعاضها من السياسات الظالمة لحكامها يعتبر زعزعةً للاستقرار السياسي، وبذلك جعلوا الاستقرار السياسي لا يحصل إلا حين يُعلن الناس السمع والطاعة العمياوين والمسبقين لحكامهم. وكل من أبى ذلك فتهمتُه جاهزة: تهديد الاستقرار السياسي وبالتالي الانتعاش الاقتصادي، وتعريض العمالة لخطر البطالة، والشركات لخطر الركود الاقتصادي... ولجلاء هذه الضبابية يجب الإجابة عن السؤالين: كيف يحصل الاستقرار السياسي؟ وكيف يُحافظ عليه؟
والجواب إن الاستقرار السياسي إنما يحصل إذا استند النظام السياسي إلى أسس متينةٍ صلبةٍ وقارّة. وهذا لا يحصل إلا إذا اجتمع أمران: أن يكون نظام الحكم منبثقاً من قناعات الشعب والمفاهيم المتجذرة في أعماقه التي لا يثق إلا فيها ولا ينقاد إلا لها. والأمر الثاني أن يكون المسؤولون عن تطبيق النظام أي الطبقة الحاكمة حائزةً على رضا الشعب، وأن يكون قادراً على محاسبتها وعزلها إذا اقتضى الأمر.
فإذا انتفى أحد هذين الأمرين، أي إذا قام نظام الحكم على قواعد لا يثق فيها الشعب ولا ينقاد لها، أو إذا تسلّط على المناصب من لا يرضاه الناس، تسرّبت الهشاشة إلى النظام السياسي وأصبح عمره محدوداً وسقوطه مسألة وقت. ولم يبق أمامه إلا إصلاح نفسه بالعمل على تحقيق الأمرين المذكورين سالفاً، أو الغرق في الإجراءات الأمنية وقمع المعارضين وفرض نفسه بقوة الحديد والنار.
إن الاستقرار السياسي لا يُتوصَّل إليه بكمِّ الأفواه وإلقاء المعارضين في غياهب السجون، ولا يحصل بخلق حركةٍ سياسيةٍ مصطنعةٍ وأحزابِ معارضةٍ شكلية، ولا يحصل بشراء الذمم وإيجاد جيوش من المنتفعين الحريصين على بقاء الأوضاع كما هي، ولا يحصل بالارتماء في أحضان أميركا وأوروبا ومسايرتهم في مخططاتهم. ولكنه يحصل فقط بتطبيق النظام المنبثق من قناعات الأمة ومفاهيم الأعماق المتجذرة فيها، أي العقيدة التي تدين بها وتطمئن لها، وبالتقرب منها وتحسُّس آلامها وآمالها، وبإيجاد آلياتٍ فعالةٍ لمحاسبة المسؤولين مهما كانت مرتبتهم في أجهزة الدولة، وبالضرب بيدٍ من حديدٍ على من يَمُـدُّ يده لنهب ثرواتها أو التنسيق مع أعدائها.
هذا هو الطريق الوحيد الذي من شأنه إيجاد الاستقرار السياسي الحقيقي والدائم، والذي ستعُمُّ خيراته كل الميادين، ولن يكون الانتعاش الاقتصادي حينذاك إلا واحدةً من ثمراته العديدة.
2005/08/11